الأدب
الإسلامي
الإسلام
يمتاز بالحرص على صلة الرحم ، عن الأديان كلها
[
1/2 ]
بقلم
: معالي الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر
الرياض
، المملكة العربية السعودية
صلة الرحم من أبرز السمات التي امتاز بها الإِسلام ، والإِسلام يحرص عليها ، ويغليها ، ويعلق عليها أهمية كبرى في بناء المجتمع ، وازدياد قوته وبقائه وسعادته . وتبدأ صلة الرحم من أقرب الناس إلى الإِنسان ، إلى أبعد فرد في النسب .
وحث
الإِسلام على المحافظة على صلة الرحم ، وبقائها قوية مراعاة ، حيّة في الأذهان ،
مطبقة في الأعمال ، حتى لا ينحدر المسلم إلى الحضيض الذي انحدر إليه الغربي ، حتى
أصبحت صلته بأقرب الناس إليه مثل صلة الحيوان بالآخر، فالأمومة والأبوة عندهم ،
بعد سن معينة ، يبطل أثرها ، وتتلاشى قيمتها ، فالابن والبنت يدخلان معمعة الحياة
، ولا ينظران خلفهما ، لا في إعانة والديهما ، ولا في الاستعانة بهما . وهذا أوجد
تفككاً في المجتمع ، وانتبارًا في الصلة بين أفراده ، إلاّ ما قل ، ممن اعتبر
شاذًا ، وشذوذه جاء من أسباب منفردة غير منتظمة في مجتمعهم .
والإِسلام
بضيائه الخيرّ الوهّاج حرص على صلة الرحم ، ولم يترك ركنًا من أركانها إلا أبان
فضلهُ ، ولا زاوية من الزوايا إلا حبب المسلم إليها ، وقد جاء القرآن هاديًا إلى
هذا ، وأبانت السنة المحمدية ما يحتاجه المسلم حتى يكون مقيمًا لهذا الركن الخيرّ
في خلق المسلم ونفعه .
فالوالدان
جعل لهما الدين المنزلة الأولىٰ في صلة الرحم ، ووضعهما على قمة الرعاية ،
والعطف والحنان ، وجعل المسلم يبعد عن ما قد يشير إشارة عابرة أو سطحية ، إلى
إهمال حقهما ، أو الإِخلال بما لهما من دين لا يمكن للأبناء وفاؤه للآباء .
وأبرز
آية في حقهما الآية الكريمة الآتية : ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ
تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰـنًا إِمَّا
يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ
أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْ هُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيْمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا
جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي
صَغِيْرًا﴾(1)
وهذه التوصية الشاملة الدقيقة ، رسمت الصورة
التي يجب أن يكون عليها المسلم تجاه والديه ، وقد أرشدت إلى وجوب الدعاء لهما مع
المعاملة الحسنة ، وذكّرت بما عانيَاه من تربية الابن في الصغر، مما يحتاج إلى بذل
مجهود عظيم ، لمقابلة هذا الفضل .
ومن
الآيات التي تمثل النظرة إلى الأرحام الأبعد من الوالدين والبنين الآية الكريمة
الآتية : ﴿وَأُوْلُوْا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ بِي
كِتَـٰـبِ اللهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(2)
وفي
صحيح البخاري ما يشير إلى بعض أفراد الرحم ، وقد نُصَّ عليه ، حتى يُزال ما قد
يكون هناك من لبس في أن الرحم لا يشمل إلاّ الأقربين :
«فيما رواه
البخاري في باب «ابن أخت القوم ، ومولى القوم منهم»:
«ابن أخت
القوم منهم».(3)
ويرسم
الدين صورة واضحة منيرة لصلة الرحم وأهميتها ، يأتي بها مسلم في صحيحه في «كتاب
البر والصلة والآداب» في «باب
صلة الرحم وتحريم قطعها»:
«إن
الله خلق الخلق ، حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت :
هذا
مقام العائذ بك من القطيعة .
قال
: نعم ، أما ترضين أن أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك .
قالت
: بلى .
قال
: فذاك لك».(4)
ثم
قال رسول الله ﷺ :
«إقرؤا
، إن شئتم ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوْا فِي
الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوآ أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَـٰـئِكَ الَّذِيْنَ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَـٰـرَهُمْ *
أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ﴾.(5)
ويؤكد
هذه الأهمية للرحم وهذا المعنى في وصلها أو في قطعها ، ما روته عائشة رضي الله
عنها عن الرسول ﷺ أنه قال :
«الرحم
معلقة بالعرش تقول :
«من
وصلني وصله الله ، ومن قطعني قطعه الله».
وعن
جبير بن مطعم قال :
«لا
يدخل الجنة قاطع» . قال سفيان : «يعني
قاطع رحم»
.
ويتوالى
التأكيد على صلة الرحم في الحديث ، فيروي أنس قال : سمعت رسول الله ﷺ
يقول :
«من
سره أن يبسط له في رزقه ، وينسأ له في أثره ، فليصل رحمه ، فليصل رحمه».
وورود
هذا في الصحاح بهذه العبارات المتكررة المتتالية ، وبهذه المعاني الشريفة يُري
الفرق بين المجتمع المسلم والمجتمعات التي لم يبرز في أديانها مثل هذا التأكيد
الذي فيه سلامة بناء المجتمع ، وضمان سعادته، من جراء التلاحم بين الأقرباء ، وهو
تلاحم لو تصورناه في الجانب العملي ، لوجدناه مثل شبكة الصياد متماسكاً ، يقف بعضه
بجانب بعض ، بقوة تجعل الخير لايخرج من بين فتحاته .
واهتمام
الأفراد في زمن الرسول ﷺ
بهذا الجانب ، وحرصهم على ألاّ يفوتهم شيء من التعاليم التي تنزل وحيًا ، أو تأتي
قولاً على لسان الرسول الكريم ، أو عملاً في فعله وتصرفه ، يجعلهم دائمًا يقظين
ومتسائلين ومستفسرين عن هذه الجوانب ، حتى يأتوا بأكمل الصور لها ، وأتم الجوانب
فيها :
أراد
رجل أن يستزيد نورًا على نور في هذا الجانب ، فسأل رسول الله ﷺ
، كما يروي أبو هريرة :
«يارسول
الله إن لي قرابة ، أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ، ويسيؤون إليّ ، وأحلم عنهم
ويجهلون علي .
فقال
: لئن كنت كما قلت ، فكأنما تسقيهم الملّ (الرماد الحار) ، ولا يزال معك من الله
عليهم مادمت على ذلك» .
والأحاديث
كثيرة في هذا المجال ، وهي تري أهمية هذا الجانب في نظر الدين الإِسلامي ، وأنه
ركن من أركان صلاح المجتمع ، وارتفاعه إلى مصاف المجتمعات السويّة ، ولا تكمل صورة
المسلم إلا بمراعاة هذا الجانب المهم ؛ لأن فيه عطفَ الكبير على الصغير، والقادر
على العاجز ، والغني على الفقير، وهذا رتق لأيّ فتق يحدث في العائلة أو العشيرة ،
أو القبيلة أو المحيط السكني .
وفي
الأدب حوادث يمر بها القاريء تؤدي إلى هذا الهدف ، وسهمها يتجه لهذا المرمى ،
وسباقها في هذا المضمار ، وإلى قصب سبقه .
وابن
عباس تجاوب مع إشارة عن أبعد صلة رحم يمكن أن تتصور ، وأبدى أهتمامه بها ، وأعطاها
الثقل الذي تستحقه ، وبَيَّنَ الأساس الذي اعتمد عليه في هذا ، والمبدأ الذي حكمه
، وأعطى تعليلاً يجعل السامع لا يقتنع بأهمية صلة الرحم فقط ولكن يتحمس لها أيضًا
:
«حدث
إسحاق بن سعيد القرشي من ولد سعيد ابن العاص قال :
أخبرني
أبي قال :
كنت
عند ابن عباس ، فأتاه رجل ، فمتّ إليه برحم بعيدة ، فَلاَنَ له وقال :
قال
رسول الله ﷺ :
«أعرفوا
أنسابكم تصلوا أرحامكم ، فإنه لاقرب بالرحم إذا قطعت ، وإن كانت قريبة ، ولابعد
بها إذا وصلت ، وإن كانت بعيدة».(6)
وابن
عمر يتجاوب مع الفكر الإِسلامي الذي يحمي المجتمع من التفكك ، ويصون أجزاءه من
التباعد ، لأن في التقارب والتجمع قوة ، والقوة هي بغية المجتمع المسلم ليحمي نفسه
، وليدفع خارج دائرته فكره ، ويشيع فيما حوله صفته ، التي يود أن تحترم ، ولا تهدد
بخطر الاعتداء ، أو محاولة الإِضعاف.
ولأهمية
صلة الرحم ، وقبول الناس لما يأتي عنها ، مقويًا لها وخادمًا ، يقبل ما يقال حتى
لو كانت تشوبه شائبة النحل ، ويعتريه الشك ، والخبر الآتي له هذه الصفة ، ويحوم
حوله الشك ، ولعل واضعه إن كان موضوعًا ، وهو ما نرجحه ، لمعت في ذهنه الفكرة
البراقة فصاغها في هذا الإِطار :
«عن
ابن سيرين قال :
قال
عثمان : كان عمر يمنع أقرباءه ابتغاء وجه الله ، وأنا أعطي قــــراباتي لوجــــه
الله ، ولن يرى مثل عمر».(7)
الذي
يجعلنا نشك في هذا الخبر هو أن أمر اختصاص عثمان أقرباءه بالمناصب والعطايا كان من
المآخذ التي يرددها المؤرخون ، وهي أمور لم تحقق ، ولكنهم يأتون بها مقدمة لما حدث
من تذمر أدّى إلى قتله رحمه الله .
وعثمان
خير من يعرف أن المناصب هي للكفء ، وأن أموال بيت المال للمستحق ، وإذا كان عمر
رضي الله عنه قد راعى هذا فالمُتَصَوَّر أن عثمان يجد فيما فعل عمر مقنعًا بصحة
العمل ؛ فلا يتجاوزه، إعتمادًا على جمل ترص ، أو كلمات براقة تقال : أما بر عثمان
لأقربائه فيأتي من ماله الخاص ، ومما زاد في ضعف الخبر الجملة التي وردت في آخره :
«ولن
يُرى مثل عمر».
وهنا نجد أنه حتى صانع الخبر اضطر أن يجد في عمل عمر ما يجب أن يكون قدوة ومثلاً
يحتذى ؛ ولكن أهمية صلة الرحم ، وقبول أي قول يؤدي إليها ، شجع الراوي على رواية
ما قد لا يكون عثمان رضي الله عنه قاله . وعلى كل حال هو قول يفيد الذين يتلمسون
أسباب التذمر ، الذي نما في عهد عثمان .
ويبلغ
الأمر في أهمية صلة الرحم ذروته – إن صحت الرواية – في القصة الآتية :
«دخل
محمد بن الحنفية رضوان الله عليه على عبد الملك بن مروان ، فلما أراد أن يقوم وضع
يده على فخذه ، فقال : ما هذا ؟
فقال
: أردت أن أمسّك لتمسني منك رحم ، فأمر له بعشرة آلاف دينار».(8)
عمد
محمد بن الحنفية إلى رمز لصلة الرحم ، وهو أقل شيء يمكن أن يبديه للخليفة الذي لا
ينقصه شيء ، وقد سبقت له طاعة محمد ، وقدر عبد الملك هذه اللفتة ، فكافأه عليها
بمبلغ سخي .
وبرّ
الوالدين من أسمى جوانب صلة الرحم ، ويتفنن البارون بآبائهم في هذا ، ويأتون بما
يدهش ، ومن بين القصص التي تروى في هذا المجال القصة الآتية :
«قيل
لعمر بن ذرّ :
كيف
برّ ابنك بك ؟
قال
: ما مشيت نهارًا قط إلا مشى خلفي ، ولا ليلاً إلا مشى أمامي ، ولا رقى سطحًا وأنا
تحته».(9)
إن
هذا الابن حرص على أن يجمع في بره بوالده
جانبي الأمر ، فقد راعى دفع الضرر في حمايته لوالده بالسير أمامه عندما
يكون هذا هو الأصلح ، والسير خلفه عندما يكون ذلك هو الأفضل . وأكد يقظته لهذا
البر وحرصه عليه ، عندما راعى الرمز لهذا ، فالسطح يعلو المكان الذي فيه والده ،
وهو لا يريد أن يكون فوق والده .
ولم
يَضِع هذا العمل الخيرّ ، وما يكمن خلفه من نية صادقة سليمة نبيلة ، فقد لاحظ
والده هذا ، فهو عن عمله راض ، ومادام ذلك كذلك فلابد أنه دعا له ، وسأل الله أن
يجازيه على إحسانه في بره ، وحرصه على صلة رحمه الأقرب .
والدين
الإِسلامي أعطى الأمور الرئيسة في صلة الرحم أهمية في إرشاد الناس إلى ما يميّزهم
عن المجتمعات ، التي لم تهتم بهذه الجوانب ، وبر الوالدين كما سبق أن قلنا يَقْدُم
التعليمات في هذا المجال ، فالقرآن يؤكد على الإِحسان إلى الوالدين ، لأنهما أهل
لذلك بسبب ما سبق من إحسانهما إلى ابنهما أو ابنتهما ، حتى وصلاهما إلى بر الأمان
، وأصبحا قادرين على مقابلة الحياة ، فهما الآن في قوة بعد ضَعف ، وآن لهما أن
يردا الجميل إلى من كان في حال ضعف بعد قوة ؛ فيقول الله سبحانه وتعالى في إحدى
الآيات : ﴿وَاعْبُدُوْا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوْا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَٰلِدَيْنِ
إِحْسَـٰـنًا﴾(10)
ولأهمية
الإِحسان إليهما قرنه بعبادته سبحانه وتعالى وجاء به مع آية التوحيد ، رمزًا
لمقامهما وشرفه .
وفي
آية أخرى أعاد الأشارة ، وأعطى الأهمية نفسها ، فقال سبحانه وتعالى : ﴿وَقَضَىٰ
رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰـنًا﴾(11)
وهذا
التكرار بهذه الصورة المتقاربة لم يأت عبثًا، بل قصد قصدًا كريمًا ، حتى لا ينظر
إلى الأمر على أنه عابر ؛ وإنما يتأكد أنه مقصود ، وأن الأخذ به معه الأجر ، وتجنب
الأخذ به فيه الإِثم ، ويمكن أن يتصور الأجر والإِثم من مجاورة الإِحسان لعبادة
الله وحده في آية واحدة .
ولأهمية
الأولاد والأرحام عند المسلمين ، ولما يتوقع من المسلم ، المحافظ على تعاليم دينه
، أن يرعى الصلة بهؤلاء جعل الله سبحانه هول الموقف في القيامة مقرونًا بالحرمان
من نفع هؤلاء للإِنسان في ذلك اليوم ، فقال سبحانه وتعالى : ﴿لَن
تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلآ أَوْلَـٰـدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَـٰـمَةِ﴾(12)
وأشار
إلى الرحم في آية أخرى ، وأهميتها فقال سبحانه وتعالى : ﴿فَأَرَدْنَآ أَنْ
يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَوٰةً وَأقْرَبَ رُحْمًا﴾(13)
ونعود
إلى الوالدين وهما أقرب رحم ، وننظر إلى عمل أحد النساك ، وقد طبّق ماسمع عن البر
بهما:
«كان
رجل من النساك يُقبّل كل يوم قدم أمه ، فأبطأ يومًا على إخوانه ، فسألوه فقال :
كنت
أتمرغ في رياض الجنة ، فقد بلغنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات».(14)
والشريف
من الناس لا يؤدي أعمال البر هذه على أنها واجب مفروض عليه في الدين ، ولكنه يؤديه
للذة يجدها في رد معروف منهما سابق ، ودين طوقا به عنقه ، ويشعر بالغبطة أن الله
مكنه من أن يفي بدينه ويزيد :
«طلب بعضهم
من ولده أن يسقيه ماء ، فلما أتاه نام أبوه ، فمازال الولد واقفًا بالشربة في يده
إلى الصباح ، حتى استيقظ أبوه من منامه».(15)
هنَا
زاد الابن عن الواجب المحدد للبرّ ، فرجح ميزان دفع الدين ، ليستجلب اللذة التي
يشعر بها الممتن ، إذا أعطى لصاحب المنّة حقه ، وسبقه بالمنة قد لا يغطيه مثل هذه
الزيادة ، فالمتفضل يبقى متفضلاً بالسبق ، ويبقى صاحب اليد الطولى والعليا.
ولما
ظن رجل أنه أدى بعض ما لأُمِّهِ عليه ببرٍّ قَدَّمه لها ، نبهه أمير المؤمنين عمر
بن الخطاب رضي الله عنه بأنه لم يؤدِّ لها إلا القليل ، ونبهه إلى شيء غفل عنه :
«قال
رجل لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إن لي أُمًّا بلغ منها الكبر إنها لا تقضي
حاجتها إلا وظهري لها مطية ، فهل أدّيت حقها ؟
قال
: لا : لأنها كانت تصنع بك ذلك ، وهي تتمنى بقاءك ، وأنت تصنعه ، وتتمنى فراقها».(16)
كان
هذا الابن البار توهّم أنه كافأ أمّه على عملها معه بما يحقق سداد الدين ورد
الجميل ، إلا أن عمر كشف له غطاء إناء فوجئ بما فيه ؛ ولقد غاص عمر رضي الله عنه
إلى عمق النفس البشرية فاستخرج منْها ما لم يكن صاحبها يــدري عنه . أجل كان
يؤمــل أن يستريح من هــذا العبء الثقيل ، وما راحتــه إلا بموت أمه ؛ كان يؤمل أن
يتحمل ويتجمل ، ويعرف أن لاستمرار هذا زمن محدد ، وفرحته في قرب نهايته ؛ أما أمه
وهي تحمله ، فكانت تؤمل في أن تطول أيــامــه وتبقى ، ناسية التعب والعناء ، وليس
أمامها إلا هو : سلامته وصحته ، وسعادته وهناؤه .
هذا
بعض ما يمكن أن يقال عن الوالدين والقصص عن ذلك في التراث كثيرة ، وننتقل إلى قول
لعمر بن الخطاب رضي الله عنه يبين أهمية معرفة الأَنساب ، لأنها تؤدي إلى حسن صلة
الرحم :
«قال
عمر رضي الله عنه :
تعلموا
أنسابكم تعرفوا بها أصولكم ، فتصلوا بها أرحامكم».(17)
وكأن
عمر يقول : إن الاهتمام بالأنساب ومعرفتها هو من أجل فضيلة صلة الرحم ، وأهمية ذلك
تأتي في أنه إذا كان هناك ضرر من تمسك القبائل بأنسابها ، وتطاحنها وتشاحنها في
ذلك ، وهو ما عانى منه قادة المسلمين أيام الفتوح بعض المعاناة ، فإن هجر هذا يؤدي
إلى إهدار صلة الرحم ، ولهذا يصبر على هذا لما فيه من فائدة ، تغطي على ما قد يأتي
منه من ضرر ، يسببه بعض من لم يفكر في عواقبه .
ونعطر
حديثنا ببعض ما ورد في القرآن الكريم من آيات عن الرحم ، وصلته وأهمية الأرحام ،
وفي الآية الآتية ما يوحى بأهمية الرحم لما قرنت به :
قال
الله تعالى : ﴿وَاتَّقُوْا اللّهَ الَّذِيْ تَسَآءَلُوْنَ بِهِ
وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْبًا﴾(18)
وقال
تعالى: ﴿وَأُوْلُوْا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي
كِتَـٰـبِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيْمٌ﴾.(19)
وقال
تعالى : ﴿وَأُوْلُوْا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي
كِتَـٰـبِ اللَّهِ﴾(20)
هذا
قول الكتاب الذي لا يأتيه الباطل ، وهو هدي المسلمين ، وشريعة مجتمعهم ، وإرشادُ
نَادِيهم ، به يقتدون ، وعلى نهجه يسيرون ؛ لايحتاجون معه إلى بديل ، ولا يتطلعون
إلى آخر، فيه كل ما يريدون، وبه ما إليه يطمحون ؛ فهل يوجد في أي مجتمع آخر مثل
هذا الاهتمام بالأقرباء : من الوالدين إلى أبعد من يشمله النسب .
إن
بعض المجتمعات تورث الكلاب والقطط ، وتحرم الأقربين مع حاجتهم ، والحنق والحقـــد
من هذا عندهم يسري ويتضاعف ، هذا يَحِرم ؛ لأنه غاضب ، وهذا يُحْرَم ؛ لأنه مغضوب
عليه ، وهكذا يتسلل الأمر ، ويسيــر في المجتمع سيلاً جارفًا من الحقد والحسد ،
والغضب والتربص ، وإعمال المكائد ، يضاف إلى هذا ضرائب التركات التي قد لا تبقي
للوارث إلا النزر القليل . ومن قارن هذا بما في المواريث الإِسلامية ، وما يأتي
منها ، عرف الفرق بين دين الله ، الذي أنزله من السماء ، لا يأتيه الباطل من بين
يديه ولا من خلفه ، ودين الأرض الذي كله باطل ، يتغير بتغير الأشخاص ، ويتلون
بتلون الأحزاب ، ويبعد ويقترب حسب المذاهب العقلية والأهواء الاقتصادية .
* * *
الهوامش :
(1)
سورة الإسراء ، الآية : 23 ، 24 .
(2)
سورة الأنفال ، الآية : 75 .
(3)
4/158 .
(4)
صحيح مسلم : 4/1940 .
(5)
سورة محمد ، الآية : 22-25 .
(6)
عيون الأخبار : 3/96 .
(7)
عيون الأخبار : 3/97 .
(8)
البصائر : 1137 .
(9)
عيون الأخبار : 3/111 .
(10)
سورة النساء ، الآية : 36 .
(11)
سورة الإسراء ، الآية : 23 .
(12)
سورة الممتحنة ، الآية : 3 .
(13)
سورة الكهف ، الآية : 81 .
(14)
المستطرف : 2/20 .
(15)
الكشكول : 2/20 .
(16)
المستطرف : 2/20 .
(17)
المستطرف : 2/26 .
(18)
سورة النساء ، الآية : 1.
(19)
سورة الأنفال ، الآية : 75 .
(20)
سورة الأحزاب ، الآية : 6 .
* * *
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول – ربيع الثاني
1426هـ = أبريل – يونيو 2005م ، العـدد : 4–3 ، السنـة : 29.